تمام؟ تمام!
ما إن أطللت من نافذة الغرفة على المشهد المغمور بشمس الصباح حتى هتفت: "يا الله" ، وسارعت لأهاتف سليمان حيدر في الغرفة المجاورة حتى يسارع بالإطلال من النافذة فبادرني قائلاً إنه يصور! من خلف حزام أخضر
تكثر فيه أشجار الحور التي توحي بأنها شموع برد وسلام خضراء، تسرح صاعدة "أورجوب" الموصوفة بأنها المدينة المتكهفة، في السهل المنبسط قليلاً وراء الأشجار تتراتب البيوت "الكريمة" ذات السقوف القرميدية الحمراء، ومن ورائها تصعد البيوت "بلون الكريم أيضاً" متكهفة، محفورة في أحجار هضبة عالية عريضة تبدو كأنها عش
للنحل البري، ومن وراء هضبة البيوت المتكهفة تلوح ذرى جبال طباشيرية البياض توشيها الخضرة، ثم تكون في الأفق السماء، صافية الزرقة، تسبح على مهل فيها سحابات شفيفة خفيفة كنسائم الصيف الرقيقة في هذه المدينة، بل البلدة.
وقعت في حب أورجوب من أول نظرة، وتوثقت عُرى الحب مع أول الخطوات. فالبلدة نظيفة هادئة، وأنيقة الشوارع والأبنية، ومترفة الأرصفة والباصات والمداخل بأشجار الكرز والمشمش ودوالي العنب إضضافة للحور الذي
يتألق منتصباً في كل الأماكن ولم يكن هناك بشر كثير واضح أن البلدة قليلة السكان كثيرة الأشجار والزهور والفنادق
الصغيرة
في شرفة معرشة بدالية العنب تطل على حديقة مركز أورجوب للاستعلامات ومع رشفات شاي التفاح الذي
المنعش ناقشت خطة عملي المقترحة في كابادوكيا مع مدير سياحة أورجوب إحسان تارهان.وعندما شرعنا في بدء
التنفيذ رجوته أن يختار لي سائق تاكسي خبير بالمنطقة وجاهلاً باللغات لا يعرف إلا التركية التي لا أعرفها
وإزاء دهشة مدير السياحة طمأنته بأنني أريد أن أرى فقط ولا أحب أن أشوش الرؤيا بالسماع خاصة وأن
الكتب تقول عادة أكثر وأعمق مما يقوله أدلاء السياحيون. وكان أن اختار لنا رجلاً طيباً لطيفاً. بسيارة صفراء صغيرة
واثني عشر مليون ليرة تركية كأجرة يومية! (حوالي أربعين دولاراً في اليوم). بلغة الإيماءات والإشارات التي تتحول
إلى مواقع على خريطة صغيرة فردتها بيني وبين السائق "مهميت إينال" "أي محمد اينال"، اتفقنا على نقطة البدء،
وسألته: تمام؟ فأجاب: تمام، وانطلقنا.
اخترقنا شوارع أورجوب الصافية الندية، صعودا وهبوطا بنعومة ورفق، ثم خرجنا إلى دروب الجبال
الخضراء حيث لم ينقطع توارد الحور والكرز والمشمش والعنب واللوز الأخضر، وبعد أربعين دقيقة وجدنا أنفسنا
نرتقي قمة "ديفريت"، فنوقف السيارة ونترجل لنطل على المشهد الأول من أعجوبة الحجر.
حتى الآن لا أستطيع العثور على تسمية دقيقة للتكوينات الحجرية الجبلية الغريبة التي شاهدتها في وادي
كبادوكيا التركي، وهي ليست حيرتي وحدي بل حيرة كل المراجع التي عدت إليها سواء لكُتاب أتراك مثل "عمر ديمير"
و "يوسيل أكات" أو غربيين خبراء بالمنطقة مثل الدكتور "مارتين أوربان". وبرغم وضوح العنصر التشكيلي الغالب
بين هذه التكوينات الجبلية المخروطية، فإن هناك من يسميها مداخن خرافية، أو مسلات، أو أقماعا، وأجد لنفسي
تسمية عربية واسعة لكنها توحي بمكنون هذه التكوينات السرمدية، فأقول تعميما: "الأنصاب".
من قمة "ديفريت" رأينا الأنصاب المخروطية الهائلة تتجاور، بألوانها السكرية "الكريمية" والوردية الملوحة
بظلال خفيفة خضراء أو رمادية، وتكلل هاماتها المدببة عمائم سوداء من قطع البازلت الضخمة يتعجب الإنسان كيف
استوت في مكانها هناك، وكيف حافظت وتحافظ على توازنها العجيب ذاك؟! كأنها منحوتات تجريدية جبارة، جبروت
الجبال، تستوحي صورة أسراب لدراويش خرافيين في جبب فاتحة "فضفاضة وعلى رءوسهم الصغيرة تستقر عمائم
داكنة كبيرة. منظر يخلط في النفس ما بين الدهشة والرهبة. الدهشة وليدة صدمة الصورة للمألوف في ذاكرتنا، أما
الرهبة،
فقد رحت أفتش عن سرها وأنا على قمة ديفريت ثم بعد نزولنا عنها ودوراننا حول أنصاب الحجر الخرافية
الممتدة على مدى عشرات الكيلو مترات في هذا الوادي، وهي رهبة شبيهة برهبات أخرى انتابتني، ولابد أنها تنتاب
سائر الناس، إزاء المشاهد الهائلة في عالم الأثر والطبيعة، الهرم الأكبر، سور الصين، سلسلة جبال آرارات أو جبال
الألب المكللة بالثلوج من الجو، معابد وات فو في تلافيف الغابة الاستوائية، المحيط الأطلنطي، قمة رأس الرجاء،
حوض نهر الميكونج، إنها أشياء هائلة تقول للإنسان: أنت مجرد طيف، صغير، ضئيل، وعابر في هذا الوجود الذي لا
تعرف حدوده، بل حتى حدوده الدنيا، كوكب الأرض الذي تعيش عليه.